عفوا هل أنت رجل؟!! هل استفزك العنوان فأردت معرفة المقصود؟ الواقع أني لم أقصد بكلمة 'رجل' المعنى العام المتعارف عليه في الأذهان للرجال الذي هو ضد 'الإناث', ولكن ما قصدته هو معنى آخر للرجولة, معنى يسمح للفتى الصغير الذي لم يبلغ الحلم بعدُ بالانتساب إليه, وقد تعجب إذا علمت أن للفتيات أيضًا الحق الكامل في الانتساب لمفهوم تلك الكلمة, فهل أصابك العجب حقًا الآن؟ ربما, على كل حال قبل أن نعرج على المفهوم الرباني لمعنى الرجولة تعالَ معي لنتعرف على ما تعنيه هذه الكلمة في معجم أغلب شباب أمتنا إلا من رحم الله وهم قليل:فأكثر الشباب اليوم يعتقدون أن:
1- الرجل هو المدخن:
وهذا المفهوم للأسف الشديد انتشر كثيرًا وترسخ في أذهان العديد من شباب الأمة, بل وأطفالها إذا أردنا أن نكون أكثر تحديدًا, وتتعدد العوامل والوسائل التي تنشر مفهوم أن الطريق إلى الرجولة بالتدخين, ومن هذه العوامل أن التدخين يعتبر في غالب المجتمعات الإسلامية:
وسيلة لتصريف الضيق والكآبة والتخفيف عن النفس.
وسيلة للإحساس بالذات والنضج وتقليد الكبار.
وسيلة للامتناع عن الغضب الشديد بارتكاب ما يظنه المدخن جريمة فينفس عنها بالتدخين.
كل هذه التصورات المسبقة تتم زراعتها في المجتمع عبر وسائل الإعلام حيث ينطلق البطل الذي تنجذب إليه الأبصار للتنفيس عن غضبه إلى التدخين, ثم يظهر أنه يهدأ بذلك أو يهديه تفكيره وهو يدخن - أي في لحظة تركيزه بفضل التدخين بالطبع - إلى الحل الذي لا مثيل له, ومن وسائل الاستزراع في العقليات لشباب الأمة وشاباتها ما يتناقله الكبار من هذه المفاهيم فيما بينهم, وما يظهر منهم من سلوكيات تؤكدها وتدعمها.
2- الرجل هو الذكر صاحب الصوت المرتفع:
وهكذا في كل الأمور لا ترى منه إلا صوتًا مرتفعًا, فبه تحل المشاكل ويعرف الناس مكانته بعلو صوته, ويخشاه كل من حوله, فتراه لا يتفاهم في أمر إلا ويحسمه بحنجرته لا بعقله, وهو قادر على أن يتغلب على الجميع.
3- الرجولة انحراف:
لكي تكون رجلاً لا بد أن تكون منحرفًا, فلسانك مثلاً لا يترك مخلوقًا في حاله, وهو كذلك مبدع في ناحية اختراع القذارات والإهانات لبني البشر, ويداك لا تسكن مكانها, بل هي أداة بطش مستمرة لا تتوقف عن العمل والإيذاء, وعينك لا تترك امرأة تعبر إلا وتمر تحت أجهزة استشعارك الدقيقة, وكذا كل جارحة من جوارحه تقوم بدورها في رسم صورة الانحراف للحصول على لقب الرجولة المستحق عن جدارة.
4- الرجل هو صاحب العلاقات العاطفية [الدون جوان] صائد الفتيات:
الرجل هو صاحب القدرة العالية على الإيقاع بالفتيات في حبائله, الذي لا يباريه أحد في سرعة هذا الإيقاع, وسرعة الحصول على ما يريد من الفتاة بدافع وهم الحب والهيام, أو هو الباحث عن الحب العفيف الرومانسي الحالم هو الباحث عن عبارات الحب والذوبان التي تؤكد رجولته من أمثال: 'لا يمكنني العيش بدونك', 'أنت الرجل الذي كنت أبحث عنه طول حياتي', 'أنت تملأ خيالي طول الوقت ولا أتوقف عن التفكير فيك', وغير ذلك من العبارات المعسولة 'أي المنقوعة في العسل, وهي ليست كذلك على الحقيقة, فمن الواضح أن هذا العسل مستخرج من زهرة الحنظل على ما يبدو, إن كان للحنظل زهرة, هذه العبارات المعسولة يهرع إليها الشاب كلما أراد تغذية شعوره الداخلي بالرجولة, وقد تكون الرجولة عند البعض فيما يتعلق بالفتيات في القدرة على الزنا بهن ومواقعتهن والتنافس بين الشباب على ذلك, وهذه لا تختلف كثيرًا عن أيام الجاهلية الأولى وعن صور معيشة المجتمع الغربي في أيامنا هذه في التسابق والمنافسة على التدني إلى الصورة الحيوانية أي الشباب الأسرع.
5- الرجل هو صاحب المواقف الرجولية وتحمل المسؤولية 'الجدع':
وهو مفهوم للرجولة رفيع ومحترم, فالرجل الذي تجده وقت الحاجة وتطلبه في المهمات هو المتحقق لمعاني الرجولة, وهو وإن كان مفهومًا يحمل قدرًا من الصحة والصواب ويلتقي مع المفهوم الرباني للرجولة في جزئية تحمل المسؤولية وخلافها, إلا أنه يختلف عنه في كيفية التعبير عن هذا المفهوم وتطبيقه, بالإضافة إلى أننا نواجه مشكلتين تجاهه في الواقع هما:
أنه ليس منتشرًا بين شباب الأمة بهذه الدرجة بحيث نتوقع أن المسافة بين مفاهيم الرجولة المنتشرة والمفاهيم السليمة مسافة قريبة يمكن اجتيازها بسهولة, بل المفاهيم الأخرى السابقة هي السائدة حقًا في أغلب مجتمعاتنا الإسلامية.
أن هذا المفهوم لا ضابط له يضبطه, فهو يتغير من مجتمع لآخر ومن وسط لآخر, فلا بد من ضبطه بالمفهوم الرباني للرجولة.
أما الرجال كما عرفهم رب البرية جل وعلا فلهم علامات أخرى أبلغنا إياها ربنا في كتابه:
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36, 37].
في هذه الآية يأتي الخبر من الله تعالى أن الرجل هو الذي لا تلهيه تجارته ولا بيعه عن أداء حقوق الله تعالى من ذكر وصلاة وزكاة, ولاحظ معي أن التجارة والبيع من المباحات وليست مما حرمه الله تعالى على عباده, ولكن هذا لم يكن سببًا لمنع وصف من ألهته المباحات عن أداء واجب الله بأنه انتقص من معنى الرجولة بقدر ما انتقص من الواجب عليه, فما بالنا بمن تلهيه المحرمات؟ ما بالنا بمن تلهيه المسلسلات والأفلام؟ ما بالنا بمن تلهيه مطاردة الفتيات وملاحقتهم؟ بل ما بالنا بمن تلهيه المباريات؟ هل هذا رجل بالمقياس الرباني؟
وقال تعالى في ملمح آخر من ملامح الرجولة القرآنية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
وهنا يظهر النص القرآني الرجل على أنه الذي يصدق الله تعالى فيما عاهد الله تعالى عليه, ولكي يتضح مفهوم الآية لا بد من ذكر سبب النزول, فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ثابت قال: 'عمي أنس بن النضر لم يشهد مع النبي صلي الله عليه وسلم يوم بدر, فشق عليه [كان صعبًا عليه] وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه!! والله لئن أراني الله تعالى مشهدًا آخر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع! قال: فهاب أن يقول غيرها, فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له أنس: يا أبا عمرو واهًا لريح الجنة, إني لأجده دون أحد!! قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه, قال: فوجد في جسده بضع وثمانون ضربة, بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية سهم, فقالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه, قال: فنزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...}.
تُرى هل أدركنا الآن معنى الرجولة الحقيقية؟ ومن هم الرجال عند الله تعالى؟ ترى أين تقف مفاهيم الرجولة السابقة أمام هذه المفاهيم الربانية, فالرجولة التزام بأمر الله تعالى والعهد الذي يقطعه العبد على نفسه, وبذا يستحق من دفع ثمن هذه الرجولة هذا الجزاء المبارك الذي عقب الله تعالى به على الآية الثانية فقال تعالى: {... لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وعدهم الله تعالى أن يجازيهم عما يفعلون من الخيرات بل ويزيدهم من فضله, فهنيئًا لمن كان هذا مقامه, وبادر أخي الحبيب بالحركة لتحصيل هذا المقام العالي من الشرف وأنت له أهل بإذن الله تعالى.
مشهد الختام:
وختامًا, هذا مشهد لفتيان حدثان لم يتجاوزا الخامسة عشر من عمرهما, إنهما فتيان خلد الإسلام ذكرهما لأنهما قتلا رأس الكفر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل لعنة الله عليه, أسوقها لأؤكد لك أخي الشاب العزيز أن الرجولة فعل أكثر منها سن تبلغه فنهنئك بالوصول إليه, وها هي:
قال عبد الرحمن بن عوف: '... إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت, فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن, فلم آمن بمكانهما, إذ قال لي أحدهما سرًا: يا عم أرني أبا جهل, فقلت: ولم يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده [ظلي ظله] حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك!! وغمزني الآخر فقال لي مثلها, فلم أنشب أن رأيت أبا جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه, قال: فابتدراه فضرباه حتى قتلاه, ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا يا رسول الله, فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا, فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: كلاكما قتله. [والفتيان هما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء].
لا بد في الختام من العود على بدء أخي الحبيب فعفوًا ... هل أنت رجل؟
أنا على يقين من أنك في الطريق لاستكمال معاني رجولتك بحياتك لأمتك وصلاح نفسك.